فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وأنتم تعلمون}:
فيه ستة أقوال:
أحدهما: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل.
الثاني: وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والإنجيل، روي عن ابن عباس أيضًا، وهو يخرج على قول من قال: الخطاب لأهل الكتاب.
والثالث: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، قاله مجاهد.
والرابع: أن العلم هاهنا بمعنى العقل، قاله ابن قتبية.
والخامس: وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه. ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
والسادس: وأنتم تعلمون أنها حجارة، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشاب. اهـ.

.قال القرطبي:

فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الخَتْم والطَّبْع والصَّمَم والعَمَى.
فالجواب من وجهين: أحدهما: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق؛ فيعلمون أنه المنعِم عليهم دون الأنداد.
الثاني: أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيّته بالقوّة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم؛ والله أعلم.
وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال ابن فُورَك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين؛ فالمعنى لا ترتدّوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادًا بعد علمكم الذي هو نَفْيُ الجهل بأن الله واحد. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكًا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن لكن الثنوية يثبتون إلهين:
أحدهما: حليم يفعل الخير والثاني:
سفيه يفعل الشر، وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة:
الفريق الأول: عبدة الكواكب وهم الصابئة، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق هذه الكواكب، وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا فيجب علينا أن نعبد الكواكب، والكواكب تعبد الله تعالى.
والفريق الثاني: النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام.
والفريق الثالث: عبدة الأوثان، واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان، وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه السلام.
وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة.
والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه، فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوهًا: أحدها: ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيرًا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور، وهكذا حال الملائكة أيضًا في صورهم الحسنة، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه.
وثانيها: ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة والفريق الثاني: أنها هي الوسائط بين الله تعالى وبين البشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصنامًا وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب.
وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتًا في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسمًا في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ولما طالت مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر.
ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنمًا على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسأن يكون شفيعًا لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18].
وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها.
وسادسها: لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل، فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل. اهـ.
قال الفخر:
فإن قال قائل:
لما رجع حاصل مذهب عبدة الأوثان إلى هذه الوجوه التي ذكرتموها فمن أين يلزم من إثبات خالق العالم أن لا يجوز عبادة الأوثان؟
الجواب:
قلنا: إنه تعالى إنما نبه على كون الأرض والسماء مخلوقتين بما بينا أن الأرض والسماء يشاركون سائر الأجسام في الجسمية فلابد وأن يكون اختصاص كل واحد منهما بما اختص به من الأشكال والصفات والأخبار بتخصيص مخصص وبينا أن ذلك المخصص لو كان جسمًا لافتقر هو أيضًا إلى مخصص آخر، فوجب أن لا يكون جسمًا، إذا ثبت هذا فنقول: أما قول من ذهب إلى عبادة الأوثان بناءً على اعتقاد الشبه فلما دللنا بهذه الدلالة على نفي الجسمية فقد بطل قوله، وأما القول الثاني: وهو أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا العالم فلما أقمنا الدلالة على أن كل جسم يفتقر في اتصافه بكل ما اتصف به إلى الفاعل المختار بطل كونها آلهة، وثبت أنها عبيد لا أرباب، وأما القول الثالث: وهو قول أصحاب الطلسمات فقد بطل أيضًا لأن تأثير الطلسمات إنما يكون بواسطة قوى الكواكب، فلما دللنا على حدوث الكواكب ثبت قولنا وبطل قولهم.
وأما القول الرابع والخامس: فليس في العقل ما يوجه أو يحيله، لكن الشرع لما منع منه وجب الامتناع عنه.
وأما القول السادس: فهو أيضًا بناءً على التشبيه فثبت بما قدمنا أن إقامة الدلالة على افتقار العالم إلى الصانع المختار المنزه عن الجسمية يبطل القول بعبادة الأوثان على كل التأويلات والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه خلقهم والذين من قبلهم ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضًا تسمى فراشًا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلًا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلًا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية:
تأمل في رياض الأرض وانظر ** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات ** على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات ** بأن الله ليس له شريك

.قال الفخر:

اعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتخذوها معبودًا لهم على حدة، وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي وهيكل العقل الصريح، وهيكل السياسة المطلقة.
وهيكل النفس والصورة مدورات كلها، وكان هيكل زحل مسدسًا.
وهيكل المشتري مثلثًا.
وهيكل المريخ مستطيلًا، وهيكل الشمس مربعًا، وكان هيكل الزهرة مثلثًا في جوفه مربع وهيكل عطارد مثلثًا في جوفه مستطيل، وهيكل القمر مثمنًا فزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قومًا يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نستنصر بها فننصر، ونستستقي بها فنسقى.
فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف.
واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة غمدان الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ومنها نوبهار بلخ الذي بناه منو شهر الملك على اسم القمر ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ود بدومة الجندل لكلب وسواع لبني هذيل ويغوث لبني مذحج ويعوق لهمدان ونسر بأرض حمير لذي الكلاع واللات بالطائف لثقيف ومناة بيثرب للخزرج والعزى لكنانة بنواحي مكة وأساف ونائلة على الصفا والمروة وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل وهو الذي يقول:
أربًّا واحدًا أم ألف رب ** أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا ** كذلك يفعل الرجل البصير

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.
التفسير:
لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلًا وآجلًا، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقًا وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطًا. ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول: جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولًا، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة. وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قربًا وحضورًا.
وأيضًا الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة، فلابد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا. وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه {يا أيها الناس} فهو مكي و{يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني فقوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها.
و{يا} حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية. وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم، وأضعفها الحرف، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28] فقالت الملائكة: ما للتراب ورب الأرباب {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] فقيل لهم: قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [البقرة: 186] {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152] و{يا} وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديرًا لكونه ساهيًا أو غافلًا أو نائمًا، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضمًا واستقصارًا كقول الداعي في جؤاره: يا رب يا الله. مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» وقد ينادي القريب.
والمراد من قوله: {اعبدوا} صححوا نسبة العبادة، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفًا بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع، وإنما يكون عبدًا ذليلًا ماثلًا بين يدي مولاه، طائعًا له بكل ما يأمره وينهاه، لأنه إذا تصور كونه عبدًا فلابد أن يطلب لنفسه سيدًا، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده، ولا يرى مخالفته في شيء أصلًا {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] وإلا لم تصح نسبة عبوديته. عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له: ما اسمك؟ قال: ما تسميني قال: أي شيء تأكل؟ قال: ما تطعمني. قال: ما تشرب؟ قال: ما تسقيني قال: تريد أن أشتريك؟ قال: العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع. ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله: {ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} [محمد: 38] {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] وأما الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله: {خلق الله السموات والأرض} [العنكبوت: 44] {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام {لا أحب الآفلين} [الأنعام: 76] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدومًا قبل ذلك، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيرًا لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال.
وأما قوله: {لعلكم تتقون} ففيه بحثان: